الحضارة الأمازيغية
قبل البدء في الحديث عن الحضارة الأمازيغية في شمال إفريقيا، لا بد من الإشارة إلي أن التنوع العرقي علي الأراضي العربية أحد مصادر الثراء للحضارة العربية والإسلامية وأن تصوير الأمازيغ، باعتبارهم منشقين عن هذه الحضارة ومعطياتها، إنما يخدم في الأخير إسرائيل التي تخصص فيها معهد ديان للأبحاث في دراسة العرقيات المختلفة في العالم العربي منذ عشرات السنين، بهدف توظيف هذا التنوع العرقي والثقافي كأداة للتقسيم الجغرافي لأراضينا وإضعاف قدراتنا على مواجهة التحديات المحيطة بنا على مر التاريخ.
ومن هنا نبدأ بالقول إن الحضارة الأمازيغية من أقدم الحضارات في شمال إفريقيا، وذلك في المنطقة الممتدة من واحة سيوة المصرية وحتى شواطئ المحيط الأطلنطي ومن البحر المتوسط شمالا وحتي الصحراء الكبري جنوبا وهي المنطقة التي كان يطلق عليها الإغريق قديمًا "نوميديا".
وهذه الحضارة لها معطياتها البارزة في الحضارة الإنسانية حيث عرفت الممالك الأمازيغية القديمة في شمال أفريقيا نهضة ثقافية وفكرية ودينية نشيطة، بفضل أبنائها الذين كرسوا كل جهودهم من أجل خدمة الهوية الأمازيغية ولغتها وحضارتها، والوقوف ضد الغزاة والمحتلين الرومان والوندال والبيزنطيين الذين استهدفوا السيطرة على شعوب تامازغا وتقسيم الأمازيغيين إلى ليبيين ونوميديين وموريين أو تقسيم البلاد إلي أفريكا ونوميديا وموريتانيا والتي بدورها تم تقسيمها إلى موريتانيا القيصرية (الجزائر) وموريتانيا الطنجية (المغرب) من أجل استغلال ثروات هذه البلدان وإذلال شعوبها وتركيعها ومسخ هويتها. بيد أن الأمازيغيين حاربوا هؤلاء المستعمرين وصدوهم بقوة وصمود. وقد أظهر رموز الأمازيغين ماسينيسا ويوغورتة وتاكفاريناس وإيدمون ودوناتوس شجاعة نادرة وبسالة كبيرة في التصدي والمقاومة والمواجهة وقد عرف المصريون الفراعنة الأمازيغ وأسموهم في نقوشهم الممورش، كما عرفوا في اللغات الأوروبية بأسماء عديدة منها المور أو الموري (Moors/Mauri)، ومنها أشتق إسم المورو والمورسيكيون وحتى إسم موروكو وموريتانيا والتي تعني أرضنا.
أما الإغريق فقد أطلقوا عليهم اسم المازيس Mazyes، كما أن المؤرخ اليوناني هيرودوتس أشار إلى الأمازيغ بالكلمة ماكسيس Maxyes، والكلمتان معا تشبهان في مخارجهما لفظة مازيـ(غ)ـس. وأطلق قدماء المصريين على جيرانهم الأمازيغ اسم "المشوش". أما الرومان فقد استعملوا عدة تسميات للشعب الأمازيغي بينها النوميديون، الموريتانيون، والريبو وحتى البرابر. وكان العرب غالبا يطلقون عليهم اسم المغاربة وأهل المغرب أو البربر نقلا عن الرومان. ومن الأمازيغ العرب المشهورين طارق بن زياد وعباس بن فرناس، ووفقًا للحسن بن محمد الوزان والمشهور بـ"ليون" الأفريقي وصاحب كتاب وصف إفريقيا، فإن كلمة «أمازيغي» قد تعني "الرجل الحر".
عبد الأمازيغ القدماء، كغيرهم من الشعوب، الأرباب المختلفة؛ ومن أبرز معبوداتهم تانيث وأطلس وعنتي وبوسيدون. ومن خلال دراسة هذه المعبودات وتتبع انتشارها في الحضارات البحر الأبيض المتوسطية، يمكن تلمس مدى التأثير الثقافي الذي مارسته الثقافة الأمازيغية في الحضارات المتوسطية. وكانت «تانيث» هي ربة الخصوبة وحامية مدينة قرطاج التونسية، وهي ربة أمازيغية الأصل عبدها البونيقيون كأعظم ربات قرطاج وجعلوها رفيقة لكبير آلهتهم بعل، ثم عبدت من طرف الإغريق؛ حيث عرفت باسم آثينا بحيث أشار كل من هيردوت وأفلاطون. ويرجح المؤرخون أن هذه الربة قد عبدت في تونس حول بحيرة ترتيونيس مكان ولادتها؛ حيث مارس الأمازيغ طقوسًا عسكرية أنثوية تمجيدا لهذه الربة.
إلى جانب هذه الآلهة عبد الأمازيغ أيضا «أوشت»، والشمس، وهو ما ذكره طبقًا لهيردوت وأفلاطون أيضا، كما مارسوا العبادة الروحية التي تقوم على تمجيد الأجداد، كما أشار إلى ذلك هيرودوت. وفيما بعد المرحلة الوثنية دخل الامازيغ الديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام حيث أثروا الحضارة الإسلامية إلى اليوم في شمال أفريقيا، ومن أشهر رجالهم المسلمين طارق بن زياد وعباس بن فرناس ومن أشهر زعماء الأمازيغ التاريخيين، الملك يوبا الثاني الذي يعتبر من كبار العلماء والمثقفين الأمازيغ إذ كان يمتاز بسعة العلم والاطلاع، وكان كثير السفر والبحث والتجوال وموسوعي المعارف والفنون. وقد ألف كثيرًا من الكتب والبحوث والمصنفات لكنها لم تصل إلينا سليمة، بل ثمة إشارات إليها في كتب المؤرخين مبثوثة هنا وهناك.
هذا، وقد تمكن يوبا الثاني ومن بعده ابنه بطليموس من توحيد القبائل الموريتانية في إطار مملكة مورية، ويعني هذا أن يوبا الثاني وحد القبائل الأمازيغية في المغرب واتخذ عاصمتين لمنطقة نفوذه "شرشال" في الجزائر أو ما يسمى بـ"قيصرية" و"وليلي"عاصمة له في المغرب. وأنشأ حكما ديمقراطيًا نيابيًا تمثيليًا، وشجع الزراعة والصناعة والتجارة. كما اهتم بالجانب الثقافي والعلمي والفكري، فأعد خزانة ضخمة جمع فيها أنواعًا من الكتب والوثائق العلمية والتاريخية، واستقطب نحو عاصمته كبار العلماء والأطباء من اليونان والرومان، وأمر بجمع النباتات الطبية والأعشاب. وشارك في رحلات علمية استكشافية داخل جبال الأطلس ونحو جزر كناريا الحالية. وجمع رحلاته العلمية وكشوفاته الطبيعية والجغرافية وأحاديثه عن المغرب في ثلاثة مجلدات ضخمة سميت "ليبيكا"، ومن أحسن ما تضمنته ليبيكا قصة "الأسد الحقود" التي مازالت تروى من قبل الجدات في عدة مناطق أمازيغية في المغرب باللغة البربرية، كما ورد في كتاب "لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين" .
ويقول الباحث المغربي محمد شفيق عن يوبا الثاني بأنه كان يكتب "باليونانية في التاريخ والجغرافيا والفلسفة والأدب وفقه اللغة المقارن، فتعجب من نبوغه "فلوتارخوسPlutarkhos"ومن كونه "بربريا نوميديا ومن أكثر الأدباء ظرفا ورهافة حس".. ونصب له الأثينيون تمثالًا في أحد مراكزهم الثقافية.. تقديرا لكفاءته الفكرية. وقد نقل عنه علماء العصر القديم، وقد بخس المؤرخون الأوروبيون قدر يوبا الثاني ومنهم المؤرخ الفرنسي Stéphane Gsell ، فتبعه في ذلك تلامذته من الأوروبيين الذين أرخوا للمغرب الكبير في عهد الاستعمار الفرنسي، وارتكنوا إلي فرضية مغلوطة واستعمارية بامتياز في أن الفرنسيين ورثة للرومان في أفريقية الشمالية، وعلي ذلك فلا مجال لحضارات المنطقة المحلية.
وإذا انتقلنا إلى مؤلفات يوبا الثاني فهي كثيرة، ومنها: "تاريخ بلاد العرب"الذي وضعه لتعليم يوليوس قيصر إمبراطور الرومان، و"آثار آشور"وقد كتبه بعد أن رأى بلاد الآشوريين واستمتع بحضارتهم وثقافة بلاد الهلال الخصيب، كما كتب عن "آثار الرومان القديمة"، و"تاريخ المسارح "الذي تحدث فيه عن الرقص وآلاته الموسيقية ومخترعي هذه الفنون، وكتب "تاريخ الرسم والرسامين"، وكتاب "منابع النيل"بله عن كتاب "النحو"و"النبات".
ويظهر لنا هذا الكم الهائل من الكتب، أن يوبا الثاني كان من المثقفين الأمازيغيين الكبار الذين تعتمد عليهم الإمبراطورية الرومانية في التكوين والتأطير والتدريس وجمع المادة المعرفية المتنوعة التي تتمثل في الجغرافيا والحفريات واللغويات والفنون والتاريخ والطبيعيات... وكانت ليوبا الثاني مكانة كبيرة في المجتمع الروماني ما دام قد حظي بتدريس يوليوس قيصر الروماني وسهر على تثقيفه وتعليمه.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان يوبا الثاني يهتم بتجميل الحواضر وتزيينها على غرار الحواضر الرومانية، تقليدًا بفن عمارتها وهندسة مبانيها وجمال مدنها كما يقول المؤرخون "خاصة عاصمتيه أيول( قيصرية) وأوليلي، مما يعكس ذوقه ومدى الرخاء الذي شهدته مملكته، فضلًا عما يمكن استنتاجه من كون تشجيع الحياة الحضرية يدخل في إطار السياسة الرومانية الرامية إلى تدجين الأمازيغيين.
خلاصة القول: إن يوبا الثاني أيضا "حكم موريتانية تحت مراقبة روما وبالنيابة عنها طوال الفترة بين عام 25 قبل الميلاد و23 قبل الميلاد قام خلالها بتمهيد السبيل أمام الحكم الروماني".
وعلى الرغم من ذلك، فقد خدم يوبا الثاني الثقافة الأمازيغية حتى أصبح نموذجًا يحتذى به في البحث الجغرافي ومجال الاستكشاف الطبيعي والتنقيب الميداني.
المصدرhttp://hadarat.ahram.org.eg/ArticlesRedirect/63